منزل اللواء عتيق في مرمى الانتقالي: هل يبتلع العنف رموز حضرموت؟
في مساء خانق فوق مدينة سيئون الهادئة، وبين جدران منزل بسيط احتضن تاريخ حضرموت لأكثر من نصف قرن، كان اللواء الركن عبدالرحيم أحمد عتيق يقضي يومه الأخير من الأسبوع كما اعتاد دائماً؛ رجل تجاوز التسعين من عمره لكنه لا يزال يحمل في ملامحه صلابة جيلٍ لم يعرف اليأس، ويحتفظ في ذاكرته بتفاصيل مسيرة بدأت مع فجر الاستقلال ولم تنته حتى اليوم.
ذلك الهدوء العتيق الذي يحيط بالمنزل ظل ثابتاً حتى اللحظة التي وصلت فيها قوة تابعة ل"المجلس الانتقالي" المدعوم من الإمارات، لتنفذ مداهمة مفاجئة بعد ظهر الجمعة الخامس من ديسمبر الجاري، وتكسر هيبة المكان وطمأنينته دون أي اعتبار لسن الرجل ولا لمكانته التي يعرفها كل حضرمي صغير كان أو كبير.
ظهر اللواء بعد ساعات في تسجيل صوتي قصير، بصوته الهادئ المعروف، ليقول إن المليشيات دخلت داهمت المنزل وإن مرافقيه تصدوا للمقتحمين.
لم يكن المشهد مجرد اشتباك عابر، بل كان صدمة أخلاقية عميقة تركت أثراً بالغاً في نفوس الحضارم، الذين رأوا كيف تُهان شخصية ارتبط اسمها بتاريخ حضرموت العسكري، وكيف يقتحم بيت رجل أفنى عمره في خدمة بلاده دون أن يرفّ جفن للمجموعات المسلحة التي باتت تتعامل مع الرموز كما لو كانت جزءاً من عقبة مؤقتة في طريق مشروعها القائم على القوة وحدها.
اعتذار لا يمحو الإهانة
يقول اللواء في التسجيل إن أبناءه تواصلوا مع علي الكثيري، رئيس ما يسمى "الجمعية الوطنية للانتقالي"، وإن الأخير حضر إلى المنزل ومعه مجموعات مسلحة أكبر من تلك التي داهمت المكان، وتمكن من تهدئة الموقف وقدم اعتذاراً لاحقاً. ورغم أن الاعتذار جاء بعد إراقة هيبة المنزل، إلا أن كثيرين رأوا أنه محاولة شكلية لتخفيف وقع الفضيحة أكثر منه تعبيراً عن احترام حقيقي لرجل صنع جزءاً من تاريخ الجنوب الحديث.
وادٍ يشتعل بالاقتحامات والاختطافات
ولم تكن حادثة اللواء عتيق سوى واحدة من سلسلة أحداث فجّرت غضباً واسعاً في وادي حضرموت، إذ تحولت سيئون خلال يومين فقط من دخول الانتقالي إليها إلى مسرح واسع لاقتحامات واعتقالات وتصفيات، بدأت بمداهمة منازل قادة عسكريين واختطاف ستة ضباط وإعدام أربعة منهم ميدانياً، بينما لا يزال مصير اثنين مجهولاً حتى هذه اللحظة.
توسعت الحملة لاحقاً لتشمل منازل المدنيين أيضاً، حيث سجلت منظمة "شهود" عمليات نهب وترويع للأسر ومداهمات ليلية واقتحام محال وممتلكات عامة وخاصة في مشاهد أعادت إلى ذاكرة الحضارم زمن "زوار الليل" الذي عاشته حضرموت في الثمانينات.
ذاكرة حضرمية تُهان ومشروع يتعرّى
وسط هذه الفوضى، برز اسم اللواء عتيق كعلامة فارقة، ليس فقط لأنه أكبر القادة سناً، بل لأنه يمثل طبقة كاملة من الرموز الذين نجوا من الحروب والانقسامات والمرحلة الاشتراكية وتقلبات ما بعد الوحدة، وحافظوا رغم كل شيء على ما بقي من المعنى القديم للشرف العسكري.
فالرجل الذي ولد في القطن عام 1935 كان من أوائل الفدائيين في الجبهة القومية، ومن الذين استلموا مطار الريان بعد خروج البريطانيين، وتدرج في المسؤوليات حتى أصبح أول مدير أمن لشبوة بعد الاستقلال وقائداً لألوية عسكرية في عدن وأبين والعبر، قبل أن يتلقى دورات عسكرية عليا في سوريا وألمانيا ويقود قوات الردع اليمنية في لبنان خلال السبعينات.
بعد ذلك عاد إلى حضرموت ليواصل مسيرته حتى أصبح أول قائد حضرمي للمنطقة العسكرية الثانية، ثم أحد مؤسسي قوات النخبة الحضرمية التي شاركت في تحرير المكلا من القاعدة عام 2016.
هذا التاريخ الطويل لم يشفع له أمام المليشيات التي تعاملت معه كما لو أنه رجل عادي لا يحمل في ملامحه ثقل تسعين عاماً من النضال والعمل العسكري، وهو ما جعل كثيرين يرون في الحادثة رسالة واضحة تكشف ما يحمله مشروع الانتقالي في جوهره؛ مشروع لا يعطي وزناً لرموز حضرموت ولا لتاريخها ولا للأعراف التي عاش عليها الناس طوال عقود، بل يفرض سلطته بالعنف وحده، دون مراعاة لأي قيمة اجتماعية أو أخلاقية.
تساءل العديد من النشطاء الحضارم في منصات التواصل: إذا كان الانتقالي قد تجرأ على مداهمة منزل رجل مثل اللواء عبدالرحيم عتيق، فإن بقية أبناء حضرموت لن يكون لهم في نظره سوى نفس المعاملة.
وهكذا أصبحت قصة المداهمة حديث الناس، ليس فقط لأنها استهدفت شخصية وطنية كبيرة، بل لأنها كشفت بوضوح طبيعة المشروع الذي يحاول فرض نفسه في وادي حضرموت بالقوة، متجاهلاً ذاكرة المكان ورجاله ورموزه.
وبينما غادر الكثيري منزل اللواء بعد أن قدّم اعتذاره، بقيت الأسئلة الكبرى معلقة في هواء سيئون: هل يمكن لمشروع يقوم على الاقتحامات والاعتقالات والقتل خارج القانون أن يحكم حضرموت؟ وهل يمكن أن يقبل الحضارم بأن يُهان كبارهم بهذه السهولة؟
وفي قلب هذه الأسئلة ظل منزل اللواء عتيق قائماً، شاهداً على واقعة لن تُنسى بسهولة، وجرس إنذار يذكّر بأن احترام الرموز ليس ترفاً، بل أساسٌ لاستقرار المجتمعات وحماية هويتها.