الشريحة هي هي 967
يُسدل الستار اليوم على واحد من أعقد الملفات العسكرية في اليمن خلال العقدين الأخيرين: المنطقة العسكرية الأولى، التي شكّلت لسنوات طويلة آخر امتداد فعلي للمحور الشرقي الذي تأسس في زمن اللواء محمد إسماعيل، وآخر الكتل المتماسكة التي احتفظت – ولو رمزياً – بطابع جيش الجمهورية اليمنية الموحدة في وادي حضرموت وصحرائها، وهي مساحة تتجاوز 30% من جغرافيا البلد.
لم تكن المنطقة الأولى مجرد تشكيل عسكري؛ بل كانت بنية سياسية محمّلة برمزية ثقيلة في الخطاب اليمني، وركنًا أساسيًا في سردية “المظلومية” التي غذت المشروع الانفصالي لسنوات. فمنذ 1994 وحتى مطلع العقدين الأخيرين، بقي الوادي والصحراء تحت نفوذ مركّب جمع بين أبين وهضبة الشمال، قبل أن ينجح الضغط الحضرمي المتراكم في إدخال تغييرات نسبية تمكّن أبناء حضرموت من قيادة بعض الألوية والوحدات، وتوسيع حضورهم العسكري. غير أن حصيلة ذلك كلّه لم تفضِ – في النهاية – إلا إلى مركز نفوذ جنوبي–جنوبي بعد خروج المعسكر الشمالي–الجنوبي من المشهد.
السياق سبق أن تكرر من صنعاء إلى شبوة: انهيار مفاجئ في تماسك القوة، ثم انزياح سريع في ميزان السيطرة. وحتى الساعات الأخيرة من الليلة الماضية، كانت المعلومات من الميدان تؤكد جاهزية القوات واستعدادها للرد، لنصحو صباحًا على واقع مغاير تمامًا.
حين آلت السيطرة لقوات المجلس الانتقالي، وصارت قوة الأمر الواقع في مسرح عمليات المنطقة الأولى، كتبت منشورًا صباح اليوم أوضحت فيه أن المسؤولية باتت في يدهم، وأن دعم كل خطوة تعزّز الأمن والسكينة واجب يُقدَّم لحضرموت وأهلها قبل أي اعتبار آخر. البعض قرأ هذا الموقف وكأنه تبدل في الاتجاه أو “قفز من المركب”، بينما كان في جوهره قراءة واقعية لمسار القوة، وتأكيدًا أن خطاب الاحتقان بعد تغيّر السيطرة لا يجلب إلا مزيدًا من الشروخ ويغذي دائرة الأحقاد.
فالسياسة – كما علمتني ثمانية عشر عامًا من التجربة المتواضعة – لا تُدار بنبرة واحدة، بل بقدرة على الموازنة بين مبدأ راسخ وخطاب متكيّف مع اللحظة. تعرف متى ترفع مستوى المواجهة، ومتى تخفّف حدة الصوت حفاظًا على المصلحة العامة. وما جرى اليوم لا يعني تراجعًا عن موقف أو تخليًا عن خط نضال، بل هو تقدير لمصلحة حضرموت، ولحساسية اللحظة، ولطبيعة التحولات التي لا يمكن مواجهتها بشعارات منفلتة في فراغ القوة.
ما زلت أؤمن أن النضال الحقيقي لأجل يمن موحد يعترف بحضرموت شريكًا وندًا لا تابعًا لصنعاء ولا ملحقًا بعدن، هو مسار طويل ان لم نشهد اكتماله في حياتنا، الأجيال القادمة ستحمل رايته في ظروف أفضل وأعدل. ولست نادمًا على أي موقف اتخذته؛ فلو عادت اللحظة نفسها لانحزت للقناعة ذاتها. يكفيني أن قلمي لم يكن يومًا في سوق الولاءات ولا في بورصة المال السياسي، وأن مواقفي لم تُكتب لأجل الادخار أو المساومة.
أما حضرموت، فأثق أن وعيها بلغ مرحلة نضج غير مسبوقة، ولم يبقَ أمامها إلا توحيد الصف وترتيب الأوراق واستثمار اللحظات السياسية المتاحة لانتزاع حقوقها ضمن معادلة المصالح الكبرى.