صوت عدني مختلف… أحمد ناصر حميدان يرسم خارطة الإنقاذ اليمنية

2025-12-04 00:00
أحمد ناصر  حميدان رئيس المنتدى الثقافي العدني
أحمد ناصر حميدان رئيس المنتدى الثقافي العدني

 

في مدينة مثل عدن، حيث تختلط الذاكرة بالنضال، والتاريخ بالألم، قلّما تجد رجلًا ظل واقفًا على ذات المبدأ لأكثر من نصف قرن. أحد هؤلاء هو الأستاذ أحمد ناصر أحمد حميدان؛ تربوي عتيق بدأ مسيرته من قاعات المدارس الثانوية التي أدارها، مرورًا بساحات العمل النقابي منذ عام 1975، وصولًا إلى ميادين السياسة والصحافة التي ظل حاضرًا فيها أكثر من عشرين عامًا، كاتبًا مقالات أسبوعية ويومية امتدت من الجمهورية والأيام والشارع إلى 14 أكتوبر حيث يكتب حتى اليوم.

 

لم يكن حضوره مجرد شاهد على التاريخ، بل كان جزءًا من هذا التاريخ: مطاردًا حينًا بسبب مقالات "ساخنة" مُنعت من النشر، ومختفيًا حينًا آخر اتقاءً للمضايقات، لكنه ظل وفيًا لقناعاته الوطنية، وانحيازه للجنوب اليمني بوصفه أرضًا وهوية لا مشروعًا سلطويًا. اليوم يشغل رئاسة المنتدى الثقافي العدني، ويمثل صوتًا مدنيًا داخل الحركة المدنية الجنوبية ولجنة الوفاق الجنوبي، وهو أحد المؤسسين البارزين في الهيئة التنسيقية العدنية.

 

ويمثّل حميدان ذاكرة حية لفترة مفصلية من تاريخ عدن واليمن، فقد عاصر لحظة ما قبل الاستقلال، وشهد تشكّل المجتمع المدني، وتنامي الحركة العمالية، وبزوغ الصحافة، وصعود الأحزاب، وتحوّلات ما بعد الاستقلال، ثم آثار الوحدة وما تلاها من حروب وانقسامات لا تزال تلقي بظلالها على الجنوب حتى اليوم.

 

من هنا، يأتي هذا الحوار معه ليس بوصفه استعادةً لمحطات من الماضي فحسب، بل بوصفه محاولة لقراءة السؤال الأكبر: كيف تشكّل جنوب اليوم من صدمات الأمس؟

وما الذي بقي من عدن تلك المدينة المتعددة، المدنية، التي ولّدت ثورات اليمن، وقدّمت نموذجًا فريدًا للعيش المشترك؟

 

في هذا الحوار، يفتح الأستاذ أحمد حميدان دفاتر الذاكرة، ويعيد تفكيك المسارات التي صنعت عدن قبل وبعد الاستقلال، ودور الحركة النقابية في إفشال المشاريع الاستعمارية، وكيف تغيّرت المدينة في ظل الوحدة، وما الأسباب العميقة التي تجعل الجنوب حتى اليوم أسيرًا لدورات لا تنتهي من الصراع.

إلى تفاصيل أول حوار لمنصة "الهدهد":

 

كيف ساهمت عدن قبل الاستقلال في تشكيل مجتمع مدني متعايش ومتعدد الثقافات؟

كان واقع مدينة عدن قبل الاستقلال يمثل نموذجًا حقيقيًا لمجتمع مدني متعايش، متعدد الأطياف والثقافات، ومنطقة حرة ومركزًا اقتصاديًا مهمًا. فقد كانت المدينة قلبًا نابضًا لكثير من الشركات والوكالات العالمية والدولية، وشهدت حركة اقتصادية واسعة خلقت طلبًا على العمالة من مختلف الفئات.

 

وفي عام 1956 تحديدًا، تأسس “الاتحاد العام لعمال عدن”، أو ما كان يُسمى آنذاك "الاتحاد العمالي". وقد كان أول تنظيم نقابي من نوعه، تولّى تنظيم العمال والدفاع عن حقوقهم، والتفاوض مع الشركات الأجنبية والمحلية. ومع هذا التنظيم بدأت تتبلور الحقوق العمالية، ثم الحقوق السياسية والاجتماعية، ومنها انطلقت بدايات المخاض السياسي في عدن، ذلك المخاض الذي أصبح لاحقًا نواة الحركة الوطنية.

 

ومن خلال هذا الحراك، تشكّلت الأحزاب السياسية، وبرز “حزب الشعب”، وظهرت أفكار لقمان، وصحيفة “فتاة الجزيرة”، و“القلم العدني”، وصحيفة “الأيام”، وغيرها من الصحف التي انتشرت في تلك الفترة وساهمت في تشكيل الوعي الوطني داخل المدينة.

 

لماذا أصبحت عدن منطلقًا أساسيًا للحركات الوطنية والثورات اليمنية مثل ثورة 48 وسبتمبر وأكتوبر؟

 

كانت عدن في تلك المرحلة حاضنة لكل رأي وطني وقومي وعربي؛ ولذلك انتقل إليها النعمان والزبيري وغيرهما من الرموز الوطنية، وشكّلوا هناك أول خلية وضعت ملامح ثورة 1948. وباختصار، كانت عدن المنطلق الأول لأي حركة تحرر قومي عربي في اليمن والمنطقة. فثورة 48 كانت الشرارة التي سبقت ثورة سبتمبر، والتي مهدت بدورها إلى ثورة أكتوبر.

 

هذا المخاض السياسي هو نفسه الذي أزعج المستعمر، فالبريطانيون كانوا يمتلكون مشروعًا آخر هو مشروع "الجنوب العربي"، وكان يقوم على جمع السلطنات والمشيخات تحت إطار ائتلاف معيّن، لكن مع إبقاء المنطقة تحت الوصاية البريطانية. غير أن عدن رفضت هذا المشروع بشكل واضح. كانت عدن في تلك الأيام ولاية، بل هي أول مستعمرة بريطانية في المنطقة، ثم أصبحت في النهاية آخر ولاية، وهذه المدينة بحراكها السياسي بدأت تنتج واقعًا جديدًا لا ينسجم مع مخططات المستعمر.

فقد بدأ الوعي السياسي ينتشر، وبدأت تتشكل حكومة محلية في عدن، وهذه الحكومة شكّلت بدورها مجلسًا تشريعيًا يضم أبناء المدينة بكل أطيافهم. ومن هنا ظهرت ما عُرف بـ"الجمعية العدنية". وللأسف لدى البعض معلومات خاطئة عن هذه الجمعية، خصوصًا بعد أن استلمت "الجبهة القومية" الحكم، حيث قامت بإعادة صياغة التاريخ بما يخدم مصلحتها، فسعت لتشويه جبهة التحرير، واتهام الجمعية العدنية بالعنصرية، وهذا غير صحيح على الإطلاق.

 

الجمعية العدنية كان معظم أعضائها من التجار، ومن بينهم أبناء تعز وأبناء مناطق أخرى، وكان هدفهم الأساسي هو تعريب المدينة ورفض العمالة الأجنبية التي كانت تُستقدم وتحظى بالأولوية المطلقة في الوظائف الحكومية، بينما اليمنيون – سواء من الشمال أو من الجنوب أو من المحميات أو من الداخل – كانت فرصهم الوظيفية محدودة جدًا.

أما في التعليم، فلم يُنشئ الاستعمار أي جامعة في عدن، وظلّ التعليم محصورًا حتى حدود الثانوية فقط، بحيث يُخرّج النظام التعليمي موظفين لخدمة المستعمر. ومن استطاع إكمال تعليمه فقد كان يذهب إلى الخارج: إلى السودان أو بريطانيا أو غيرها. وهؤلاء القلّة هم الذين تحمّلوا لاحقًا مسؤولية بناء الدولة بعد الاستقلال.

هذا باختصار عن عدن، وهذا تحديدًا ما كان يُرعب المستعمر منها. كانت بريطانيا تقول: "نحن من منحناكم وصنعنا لكم كل شيء"، ثم تتذمّر لأن أبناء عدن وقفوا في نهاية المطاف مع الثوار ضدها.

وترددت عبارات كثيرة في ذلك الوقت، منها ما يُنقل عنهم: "سنأخذ السلاطين ونأتيكم بالشياطين"، في إشارة إلى إدخال الأيديولوجيات التي تمسّ نسيج المجتمع.

وهذا هو جوهر التخوّف من عدن: دورها الحيوي والأساسي كمركز تجاري عالمي مهم، وكمحطة رئيسية لتموين البواخر، وقدرتها الكبيرة على رفد اليمن بالمال والحركة الاقتصادية لو تُركت لتقوم بدورها الطبيعي.

 

ما الدور الذي لعبه الاتحاد العمالي وعدد من الثوار في إفشال مشروع "الاتحاد الجنوب العربي" في عدن عام 1963؟

 

عدن لم تكن يومًا إلا روحًا ثورية تحررية قومية عربية. فقد دعمت عدن الثورة الجزائرية، وكانت في مقدمة من قدموا الدعم لثورة سبتمبر وثورة أكتوبر. بعض الأحداث التي يُقال أنها أثرت على الوضع المحلي، مثل عودة الشيخ غالب راجح لبوزة من المشاركة في دعم ثورة 26 سبتمبر في الشمال، وأنه اصطدم مع بريطانيا، لكن الحقيقة التي لم تُعلن عنها الجبهة القومية تتعلق بما عُرف بـ"قنبلة المطار".

هذه القنبلة انفجرت في 11 سبتمبر 1963، وكانت الشرارة الأولى التي أعلنت الكفاح المسلح داخل عدن. القنبلة استهدفت مجموعة من البريطانيين، بما في ذلك بعض السلاطين، والمندوب السامي ونائب المندوب السامي الذين كانوا في طريقهم إلى بريطانيا لتوقيع اتفاق "الاتحاد الجنوب العربي". لكن الثوار، ومن بينهم أعضاء الاتحاد العمالي، وبدعم من جمال عبدالناصر، تمكنوا من إفشال هذه الرحلة بعد أن تدرّب خليفة عبدالله خليفة على أداء هذه المهمة؛ أي رمي القنبلة. أسفرت العملية عن مقتل نائب المندوب السامي وعدد من السلاطين، ومنعت توقيع الاتفاق، إذ كانت عدن ترفض مشروع "الجنوب العربي"، وكانت تصر على دولة وطنية مستقلة، تدعم وحدة اليمن ووحدة الأمة العربية، وليس وحدة اليمن بمفرده.

كيف أثرت السياسات الاستعمارية بعد استقلال عدن على الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة، وما علاقة ذلك بتأسيس الإمارات العربية المتحدة، وما هو تأثير ذلك على الشخصيات والكفاءات المحلية؟

 

بعد الاستقلال، تعرضت عدن لسياسة "فرق تسد"، وهي السياسة الاستعمارية التي خلقت الفتنة ودفعت المدينة ثمن مواقفها الوطنية الحقيقية تجاه المستعمر ورفضها لأي مشاريع استعمارية كانت. استمرت بريطانيا في العمل من خلف الكواليس لتعطيل أي محاولة لبناء دولة حقيقية، ومنع انتعاش الميناء والمنطقة لتكون مصدر خير للمنطقة والبلد، ما دفع بريطانيا للبحث عن بدائل.

في تلك الفترة، لم تكن الإمارات العربية المتحدة موجودة بعد، وجاءت معظم الدول التي تشكلت لاحقاً، خاصة الإمارات، نتيجة فشل بريطانيا في بناء مشروع "الجنوب العربي" داخل جنوب اليمن. ولهذا السبب أرسلت بريطانيا كتيبة بقيادة حيدر مسعيدي لترتيب أوضاع القبائل في ساحل عُمان. هذه الكتيبة كانت جزءًا من "جيش الليوي" الذي أسسته بريطانيا، وكان أفرادها من قبائل الجنوب، ومعظمهم من شبوة وأبين. وقد جلست مع أحد أفراد هذه الكتيبة واستمعت منه مباشرة إلى تفاصيل هذا التاريخ.

حيدر مسعيدي عمل على جمع القبائل، التي كانت معروفة بالتقطع على الطرق، وتفاوض معهم، وكان هو ممن أعدّوا زايد بن سلطان ليصبح أميرًا على هذه المنطقة التي ستعرف لاحقًا بالإمارات. بعد ذلك، عاد مسعيدي إلى جنوب اليمن. وفي السبعينات، جاء زايد بن سلطان إلى عدن وطلب من الرئيس سالم ربيع علي إرسال حيدرة، فتمت الموافقة، وسافر حيدرة وعاش في الإمارات حتى وفاته هناك.

كما أخذوا بعض الكوادر اليمنية المتميزة، مثل الموسيقار جميل غانم، مؤسس معهد فنون عدن، الذي أسس لاحقاً أكبر معهد للفنون في أبوظبي. عند عودته في الثمانينيات، كان في وضع نفسي وصحي صعب، متنقلاً بين المستشفيات بسبب ما مر به في الإمارات، إذ فقد عقله تقريباً نتيجة المعاملة والتجارب التي واجهها هناك.

كيف أثرّت الانقسامات بين "الجبهة القومية" و"جبهة التحرير" على استقرار عدن بعد الاستقلال؟

كلاهما القومية والتحرير كانوا يقاتلون معًا خلال الكفاح المسلح، وكانوا في تلك الأيام يشكلون كيانًا واحدًا في مواجهة المستعمر. مع ذلك، كانت هناك فتنة زرعت بين الطرفين، ولا أريد أن أخوض أكثر في هذا الموضوع، المهم أنه حتى بعد أن استولت الجبهة القومية على السلطة لم يُترك لها المجال الكامل للحكم، وتم إضعافها كما هو معروف.

خلال تلك الفترة، أي من بعد الاستقلال، شهدت عدن فترة من عدم الاستقرار، وصولا إلى أحداث 13 يناير، حيث تم تصفية معظم الكوادر الحقيقية، وفي النهاية سُلمت البلاد ضمن الوحدة اليمنية، وكان هذا التسليم نتيجة هروب البيض، حيث أن الجماعة التي نعاني منها اليوم هم أنفسهم الذين كانوا يطاردونه، وقد جلست مع مجموعة منهم واعترفوا بأنهم ساهموا في دفع البيض للوحدة خوفًا من القتل أو التصفية.

 

لماذا يكرر البعض في الجنوب اليوم أخطاء الماضي مثل اللجوء للصراعات رغم أن نتائجها مريرة؟

 

طبعًا، ندرك الآن أن بعض مناطق الجنوب لم ترغب أبدًا في التفاهم ولا تعيش إلا من خلال الصراعات، وهذه الصراعات عبارة عن تراكمت عبر الزمن، وتشمل ثارات وأحقاد وضغائن، ولا يزال البعض يعتمد عليها في مواقفه وقناعاته حتى اليوم، ويستمر في إشعال صراعات وحروب جديدة ويعتقد أنه يُمكن أن ينتصر، وهو يعرف أن الوطن مهزوم في الصراعات والحروب الأهلية. فحتى من يعتقد أنه المنتصر يظل في حقيقة الأمر مهزومًا، لأنه لا يستطيع أن يحقق استقرارًا طويل الأمد ولا بناء شراكة وطنية تشمل الجميع.

 

كيف تغير حال عدن بعد الوحدة على صعيد عودة مهجري الصراعات المختلفة؟

 

بعد الوحدة، انتعشت عدن مع عودة المشردين منذ فترة ما بعد الاستقلال. فقد عاد أعضاء جبهة التحرير الذين غادروا إلى مناطق في تعز، وبعضهم إلى مصر وبريطانيا، وكذلك أنصار قحطان الشعبي الذين نزحوا إلى مناطق أخرى، وأيضًا أصحاب سالمين، وبعدهم أتباع علي ناصر. وعندما غادر هؤلاء، لم يبق في عدن إلا عدد قليل من السكان والقوى المؤثرة.

 

أدى هذا التشرد إلى مشكلة كبيرة، إذ لم يتمكن الحزب الاشتراكي اليمني من جمع شتاته وتوحيد الناس حوله لمواجهة القوى التقليدية والقبلية، ما جعله ضعيفًا وهشًا. في المقابل، اعتمد الطرف الآخر على خطاب وطني يدعم الوحدة والحوار، لكنه في الواقع لم يكن حقيقيا.

للأسف، آثار هذا الشطط والإقصاء لا تزال مستمرة، وما نزال نعاني منه حتى اليوم في الجنوب.

 

كيف ساهم التحالف بين بعض القوى الجنوبية والداعمين الإقليميين في تعطيل الوحدة وذلك من خلال حرب 1994؟

حرب 1994، كانت جنوبية في الأساس. الجنوبيون أنفسهم هم الذين ساعدوا علي عبدالله صالح في تحقيق النصر ودخول عدن. اليوم، الذين يدعمون "الجنوب" من بعض الدول الخليجية كانوا في السابق متحالفين مع صالح، مثل الإمارات والسعودية، ولم يكونوا يرغبون في وحدة حقيقية.

 

هؤلاء كانوا وراء تعطيل تنفيذ اتفاق "وثيقة العهد والاتفاق"، حيث كان تحركهم متقلبًا: تارة يدعمون القبائل، وتارة يدعمون صالح، وحتى البيض وعدوهم بالدعم ثم تخلو عنه في اللحظة الأخيرة. للأسف، هؤلاء لا يزالون يمارسون نفس اللعبة حتى اليوم.

 

كيف تحوّل حلم الجنوبيين بالوحدة من مشروع خلاص بعد عقود من التشرد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي لا يريد قيام دولة مستقرة في اليمن؟

 

عندما أعلن البيض الانفصال، شعرنا—أنا ومجموعة من الزملاء—أنه قرار خاطئ، لأن المفترض كان أن يصمد البيض ويتبنى مشروع الوحدة، فهي في الأصل كانت مشروعًا جنوبيًا قبل أن تكون مشروع الحزب الاشتراكي. نحن كجنوبيين ظُلمنا طويلًا، وعندما تحققت الوحدة تنفسنا الصعداء.

عاد كل الذين تم تهجيرهم منذ ما بعد الاستقلال، الذين تفرقوا بين تعز ومصر وبريطانيا وغيرها. عادوا فرحين، التصقوا بنا، ورووا لنا أحوالهم، بعضهم فقد بيته، وبعضهم هاجر ثلاثين سنة ثم عاد يشعر للمرة الأولى بأنه رجع لأرضه وبلده—خصوصًا العدنيين الأصليين، وأبناء أبين الذين كانوا من أكثر المتضررين بعد أحداث 13 يناير.

لكن للأسف، لم يُسمح لنا ببناء دولة. لم يُرَد للوحدة أن تستمر ولا لليمن أن يستقر. كانت البلاد قد بدأت بالانتعاش، لكن التدخلات الإقليمية والدولية—من بعض دول الخليج ومن ورائها بريطانيا، واليوم أمريكا التي تمسك بزمام النفوذ العالمي—كانت دائمًا تقف ضد نشوء دولة يمنية قوية.

بعد أن رفع علي سالم البيض راية الانفصال، كنا نقول — وهو نفسه قالها في خطابه — إن العودة إلى الجنوب ستكون خطوة نحو استيعاب تعز ومأرب وبقية المناطق، ومن هناك ستنطلق الدولة المنشودة القائمة على التعددية السياسية والديمقراطية. ورغم كل التحفظات، رأينا أن ذلك ربما يكون ممكنًا، خصوصًا أن قوى وطنية من الشمال جاءت إلى الجنوب أملاً في بناء الدولة التي يحلم بها الناس.

لكن للأسف، كان الجنوب لا يزال مثقلاً بجراحه، محمّلًا بإرث طويل من الصراعات والثارات التي لم تُعالج. وفي العقد الأخير، تم جرّ الجنوب إلى صراعات أو أن دول الخليج — السعودية والإمارات — وجدت فرصتها للتدخل، وبدأت تشكيل كيانات قائمة على منطق الثأر والانتقام. وجاء "الانتقالي" كيانًا لم ينبثق من الناس بقدر ما جاء نتيجة فراغ سياسي تم استغلاله، بينما كانت الجماهير تتطلع إلى كيان يمثل الجنوب حقًا.

 

وهكذا أُعيد بناء المشهد على أسس الصراع، خاصة داخل منطقة المثلث التي تحمل ثارات متبادلة مع أبين ومناطق أخرى، لتستمر دوامة الانتقام بلا نهاية واضحة. ومنذ ذلك الوقت أدركنا أن ما تشكّل لم يكن جنوبًا جديدًا، بل امتدادًا لسلسلة من الصراعات، تُعطّلها حتى اليوم التدخلات الخارجية التي تمنع قيام دولة مدنية حقيقية.

 

إلى أي مدى لا تزال الانقسامات العرقية والجغرافية تؤثر على الحياة السياسية والاجتماعية في الجنوب اليوم؟

 

لا زلنا نواجه اليوم آثار نفس العقلية الإقصائية التي سيطرت على الجنوب منذ عام 1967، وهي عقلية تحكم بالقبيلة والعنف والسلاح، وتعتبر نفسها الوصية على الجنوب. هذا الواقع يعكس الطريقة التي بُني عليها مشروع بعض القوى السياسية والاجتماعية، والذي يرتكز على الانتماءات العرقية والجغرافية والسلالية، بعيدًا عن قيم الثورة والعدالة والحرية والتعدد السياسي الذي يمكن أن يشمل الجميع، سواء من الشمال أو الجنوب.

ومن هنا بدأنا كمعارضين نلاحظ الانقسامات والتمييز على أساس الأصل والانتماء الجغرافي وتحميل الشماليين المسؤولية وفي مقدمتهم عبد الفتاح إسماعيل، الذي لم يكن سوى ثورياً وصل إلى مراكز الحكم. وقد يكون عبد الفتاح هو الذي ساعدهم في تنظيم الدولة بعد 1969، حيث أسس ما يُعرف بـ"التنظيم الموحد للجبهة القومية"، لأنهم كانوا يديرون الأمور بشكل عشوائي قبل ذلك، وأسس الحزب الاشتراكي اليمني كمؤسسة سياسية أدارت الحكم، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا.

 

واللافت أنه كان الوحيد الذي غادر السلطة طواعية، دون اللجوء إلى الدماء، بخلاف ما حدث مع آخرين، حيث كانت السلطة تُنتزع بالقوة والصراع.

 

كيف يمكن بناء دولة ومؤسسات عادلة في ظل استمرار العقلية المناطقية التي تتحكم في القرار، وتُقصي الآخرين على أساس الانتماء لا الكفاءة؟

 

بدأت النزعة المناطقية تتغلغل بين أوساط الشباب، وللأسف الشديد تحوّلت إلى بذرة خطيرة زرعت في الوعي العام، فتشوّه الإدراك وبدأ كثيرون يتبنّون قناعات ضيقة ومتخلّفة لم نكن نقبل بها في السابق. وهكذا انزلقنا إلى هذا الصراع العبثي الرديء الذي نعيشه اليوم.

وتتمثّل مشكلتنا الحقيقية في أن من يتولون السلطة اليوم هم أنفسهم الذين صنعوا هذه الأزمة، لأنهم ما زالوا يحملون العقلية ذاتها التي قادتنا إلى هذا الواقع.

كنتُ وقتها في الاتحاد العام للنقابات في عدن. لم نكن محسوبين على علي عبدالله صالح، لكن كان لنا دور واضح ونشاط فعلي، ورغم ذلك تعرّضنا للمضايقات، حتى وصل الأمر إلى اقتحام مبنى الاتحاد بالقوة.

 

توجهنا بعدها إلى عيدروس الزبيدي، باعتباره المحافظ حينها، وقلنا له بوضوح: نحن كنقابيين نرفض تمامًا الاقتحام العسكري، لكننا مستعدون للخروج من مواقعنا عبر انتخابات، وإذا جاءت قيادة بديلة فنحن جاهزون لتسليمها كل شيء بشكل ديمقراطي وشفاف.

 

لكن رده كشف الكثير؛ فقد التفت إلى أحد الزملاء النقابيين معنا، وهو رجل محترم وما زال ثابتًا على موقفه حتى اليوم، وسأله عن أصله. وما إن علم أنه من ردفان حتى قال له: "أنت من أصحابنا"، فقلت له ونحن ألسنا من أصحابكم؟!

حينها أدركت مباشرة أن معيار التعامل أصبح مناطقيًا بحتًا، وأن العقلية التي تحكم هي عقلية "أنت من جماعتنا" وليس عقلية دولة أو مؤسسات. ومع مرور الوقت، ظهرت هذه النزعة بوضوح أكبر في خطاباته ولغته.

نحن لا نعارض الانتقالي ولا الشرعية، نحن نحمل قيما للدولة ونطالب بتعزيز هذه القيم في الواقع، ونرفض استدعاء صراعات الماضي والانتقام والثارات، نرفض النزعة المناطقية والعنصرية.

 

ما الدروس التي يمكن أن نتعلمها من نموذج عدن ما قبل الاستقلال في التعايش والقضاء والإدارة؟

 

نحن عملنا في عدن، وحاولنا أن نؤسس منتدى ثقافيًا عدنيًا بهدف توعية الشباب، لأن جوهر مشروعنا كان يقوم على فكرة أن نموذج عدن قبل الاستقلال كان النموذج الأفضل.

ونحن بالطبع لسنا مع المستعمر، ولم نقل يومًا إننا نريد عودته؛ نحن طردنا المستعمر من أجل استقلال القرار السيادي، ومن أجل أن تكون أرضنا تحت سلطتنا وإدارتنا. لكن النموذج الإداري والاجتماعي الذي كان قائمًا آنذاك كان نموذجًا متقدمًا يقوم على التعدد السياسي والعرقي والثقافي، والتعايش، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، والإدارة الرشيدة.

 

كان هناك مهندس بلدية لا يمكن لأحد بناء أي شيء من دون أن يأتي هذا المهندس ويُصدر ترخيصه. لم يكن بإمكان أي شخص تجاوز القانون، وكان القانون ساريًا على الجميع بلا استثناء، والقضاء كان مستقلًا.

ورغم أنه قضاء بريطاني في ذلك الوقت، إلا أن الناس رأوا عدالته في قضايا بارزة؛ مثل قضية خليفة عبدالله خليفة الذي اتُّهم برمي "القبلة" في المطار. استطاع المحامون حينها أن يظهروا الحقيقة بسبب وجود عدالة حقيقية داخل القاعة.

 

وقد حدثت واقعة طريفة داخل المحكمة حين رمى أحد الأطفال "الفترية" – وهي لعبة دائرية بسيطة – فسببت فوضى داخل القاعة. ارتبك القاضي وسألهم: من رمى الفترية؟ ثم استغل المحامي الواقعة وسأل القاضي: كيف عرفت وما دليلكم أصلًا على أن خليفة عبدالله خليفة هو من رمى القبلة؟ ومن هنا بدأت تتضح الثغرات في القضية.

وبالفعل، ورغم أنه كان في السجن، ترشّح لاحقًا لمجلس الشورى(المجلس التشريعي)، ولا يزال هذا المبنى قائمًا حتى اليوم. كان المجلس يصدر قرارات الحكومة وينظم شؤون الدولة، وهو نموذج للنظام والقانون الذي نسعى لاستعادته. بناءً على هذا، بدأنا العمل في المنتدى الثقافي بالتركيز على توعية الناس بأهمية ترسيخ روح النظام والقانون، ورفض الكراهية والعنصرية.

 

قمنا بزيارات للمدارس لإلقاء محاضرات صباحية حول مخاطر المخدرات والكراهية والعنصرية، كما عقدنا محاضرات أخرى لشخصيات أكاديمية وطلابية في الجامعات حول أهمية التعليم ودوره في المجتمع. عملنا أيضًا على التوعية بخطورة حمل السلاح، بالتعاون مع قادة الأمن الذين شاركوا في النقاشات داخل القاعة.

 

ومع ذلك، بعد خروجهم، لاحظنا أن القرارات لا تُنفّذ بالشكل الصحيح، حتى أن مدير الأمن نفسه اشتكى من تصرفات عناصر الحزام الأمني، مشيرًا إلى أن سلطتهم ليست تحت رقابة واضحة. الدولة اليوم تُدار بعقليات وأدوات صُنعت لأغراض أمنية وعسكرية وسياسية، وأحيانًا بتوجيهات من خارج البلاد.

 

كيف أثرت التشكيلات المناطقية والتدخلات الخارجية على مشاركة أبناء عدن ودورهم في حماية المدن والمواقع الحيوية بعد حرب الحوثي؟

 

مع بداية ظهور التشكيلات المناطقية، كان التجنيد خاص بأبناء يافع والضالع وأعداد قليلة من عدن ثم جرى تهميشهم لاحقا. بعد حرب الحوثي، شارك أبناء عدن بشكل فعّال، وهم من قاتلوا بالفعل، وقدموا تضحيات كبيرة، وسيطروا على المطار والمنطقة الحرة وميناء المعلا وميناء الزيت، محافظين على هذه المواقع المهمة، وبعد ذلك تم إزاحتهم من هذه المواقع لصالح أفراد من مناطق أخرى.

 

لكن للأسف، بعد اغتيال جعفر محمد سعد، وهو من أبناء عدن وكان يعمل معهم على أساس وطني، ظهرت قوى خفية تعمل في الظلام، وكانت هناك تدخلات خارجية، بما في ذلك الإمارات، التي كانت تدعم بعض العصابات المسلحة. تم اغتيال عدد كبير من الوطنيين ورجال الأمن والمعارضين والمفكرين، والحمد لله نجونا من هذه الحملات، وإلا لكنا من ضمن الضحايا.

 

كنت أكتب في صحف محلية معارضة، مثل صحيفة "الأيام"، ثم توقفت، وواصلت الكتابة في "أخبار اليوم" يوميًا، حيث كانت كتاباتي قوية ومعارضة، مما عرضني للملاحقة والتهديد، لكننا نجونا بحمد الله.

 

كيف أثر تراجع دور النخبة وضياع الشباب على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجنوب اليوم؟

 

مشكلتنا في الجنوب تكمن في إرهاق الشعب، وفي الوقت ذاته، تراجع دور النخبة عن التواجد الفاعل في المشهد. كثير من الأكاديميين والمثقفين يتمسكون بالحياد ويميلون إلى التردد، وهم رافضون اتخاذ أي موقف حقيقي.

 

حتى في صفوف الانتقالي، بعد فترة اعتقالي، حاولت التواصل مع بعض القيادات، وجلست معهم، لكنهم كانوا غير قادرين على البوح بكلمة حق أو تحديد موقف واضح، رغم دعمهم لي. وأنا دائمًا أقول لهم: علينا أن نكون صوتًا وطنيًا مشرفًا، وأن نتحرك ضمن جبهة وطنية عريضة لدعم القضايا الوطنية.

 

أما الشباب اليوم، فحالهم ضائع، يبحثون فقط عن لقمة العيش. بعضهم انضم إلى الحزام الأمني، وآخرون عملوا في المنظمات أو الهيئات التابعة للانتقالي مقابل رواتب زهيدة، أو الإعلاميون الذين يعملون في القنوات دون امتلاك قناعاتهم الخاصة. فالحقيقة، لا يوجد دخل كافٍ اليوم إلا من خلال العمل العسكري أو التوظيف في هذه الجهات، بينما الرواتب ضعيفة ولا تكفي لتأمين حياة كريمة. أغلب الناس يعيشون اليوم على حافة الفقر، في ظل معيشة صعبة وغير مستقرة.

 

بصراحة، نجح تحالف السعودية والإمارات في السيطرة على الجنوب بالكامل، بما في ذلك الشرعية التي كنا نتعشم فيها خير. لم تخذلنا فقط، بل خذلت الجميع، حتى أولئك الذين اتخذوا مواقف منذ وقت مبكر، مثل بن دغر والميسري وبن عدّيو، وغيرهم من القيادات.

 

فعليًا، تمكن التحالف من إعادة تركيب الشرعية بما يتوافق مع مصالحهم وأجنداتهم، ليحركوها وفق ما يريدون. هذا الواقع المؤسف انعكس أيضًا على الشباب، الذين أصبح الحديث عن الوطن أمرًا ثانويًا، بينما أصبح البحث عن لقمة العيش هو الأولوية. التضحية صارت اليوم صعبة للغاية، وحتى المتقاعدون الذين يحصلون على راتب ضعيف لا يمكنهم العيش إلا بالكاد.

 

أما فرص العمل، فهي محدودة جدًا، ولا يتاح للناس سوى الانخراط في مؤسسات مرتبطة بالانتقالي والهيئات التابعة لهم. بل حاربوا التجار الحقيقيين لصالح طبقة تجارية منهم نشأت في العديد من المناطق، مما أدى إلى السيطرة على الاقتصاد المحلي وإقصاء الفاعلين الحقيقيين.

 

ما الحل الذي تراه مناسبا للخروج من هذا المأزق؟

 

الوضع اليوم مؤلم، ومؤلم للغاية. ولن يستقيم الحال إلا بثورة شعبية حقيقية، ثورة تخرج من الناس أنفسهم. في عدن، قبل اعتقالي، كنت أقول — مع الأسف — إن الوعي الشعبي لم يكن ناضجًا بما يكفي، وأن الحضور في اللقاءات والمنتديات لم يكن يعكس حجم الغضب الحقيقي.

 

لكن بعد الاعتقال، تغيّر كل شيء. رأيت التضامن الواسع، والرسائل التي وصلت، والزيارات المتتالية إلى بيتي. شعرت حينها بأن الناس كانوا يبحثون عن لحظة يعبّرون فيها عن رفضهم لهذا الواقع، وأنهم كانوا بحاجة لشرارة فقط.

 

ومع ذلك، لم يكن هناك دعم كافٍ من القوى الفاعلة لمواصلة هذا المسار. وكل من يتحرك اليوم بجرأة يعرّض نفسه للخطر. نحن جميعًا نعيش على حافة الخطر، وأي شخص مؤثر يمكن أن يتعرض للتصفية في أي لحظة — وقد تلقّينا بالفعل تهديدات مباشرة بالقتل.