حرب ضد السمعة والهوية!

سامي الكاف

أتصور أنه في اللحظة التي تخيّل فيها البعض أن العالم الرقمي بات مألوفاً ومكشوفاً، جاءت تحديثات “إكس” لتعيد ترتيب الضوء والظل، وتخلخل يقيناً طويلاً حول ما نظنه شفافية وما نُدركه وهماً.

بدا أن معلومة صغيرة كالموقع الجغرافي قادرة على إعادة صياغة الوعي، وكأنها تضع مرآة جديدة أمام القارئ والمُتصفّح معاً، تكشف ما تراكم من خداع وتنكر وانتحال، وتعلن أن الحقيقة – مهما طالت غربتها – تجد دائماً منفذاً يعرّي الأقنعة ويعيد للفضاء الافتراضي صورته غير المزخرفة.

إنّ تحديث موقع إكس الأخير، والمتمثّل في إظهار الموقع الجغرافي للحسابات، في اعتقادي لم يكن مجرّد تعديل تقني عادي أو عابر، بل لحظة انعطاف في الوعي الرقمي ذاته. فهذه الخطوة التي تكشف المسافة الخفية بين المستخدم وما يكتب، أعادت تموضع الحقيقة داخل فضاء اعتاد التضليل.

وما إن بدا أن الجغرافيا ظاهرة حتى انكشفت معها أوهام طويلة شكّلتها شبكات منظمة كانت تتخفّى خلف الظلام. وهكذا تحوّل الفضاء الافتراضي، الذي لطالما تشكّل على هيئة مرايا مخدوشة، إلى اختبار صارم يفرز ما كان مستتراً من هندسة الوعي وصناعة الزيف.

في الواقع كشفت هذه الخطوة وجود منظومة حسابات مرتبطة بالميليشيا الحوثية اعتمدت على حضور رقمي متوهَّم لتعويض غياب أي سند شعبي حقيقي.

فالانتحال والتلاعب لم يكونا أدوات هامشية بل ركيزة لبناء صورة مصطنعة تحاول إيهام الجمهور بواقع مغاير.

ومع انكشاف مواقع تلك الحسابات، ظهرت البنية الأخلاقية الهشّة التي حكمت هذا النشاط: استخدام شخصيات نسائية مزيّفة، نشر محتويات فاحشة، والإيقاع بخصوم سياسيين من خلال خطاب يراد له أن يبدو طبيعياً بينما لا يحمل إلا أثراً لآلة دعائية تعمل من غرف مغلقة. لقد بدا المشهد أشبه بكشف مسرح دمى كانت تحرّكها يد واحدة.

الصدمة الأبرز تمثّلت في فضيحة الحسابات النسائية التي تدار من صنعاء بإشراف إعلاميين نافذين في المنظومة الحوثية، وهو ما دفع هذه القضية إلى أن تصبح لحظة فاصلة في قراءة الدعاية الرقمية في اليمن.

في الواقع بات واضحاً أن الجماعة لم تكتف بإدارة خطاب تعبوي تقليدي، بل عمدت إلى محو الحدود الأخلاقية واستغلال هوية المرأة باعتبارها مدخلاً يسهل من خلاله التلاعب بالرأي العام. ومع توثيق هذه الشبكات خلال الأيام الأخيرة، بدا أن اليمنيين شعروا بأن صورتهم قد شُوّهت خارجياً عبر محتوى إباحي ومنتحل، الأمر الذي عمّق شعورهم بأن الجماعة لم تكتف بالحرب المادية، بل نقلت عدوانها إلى السمعة والهوية.

وفي المحصلة، تكشف هذه الفضيحة التي حاولت النيل من المجتمعين اليمني والخليجي على حد سواء، أن تأثير الحوثية في المنصات لم يقم يوماً على التفاعل الطبيعي ولا على قوة الخطاب، بل على هندسة خداع رقمي تبني واقعاً افتراضياً لسلطة معزولة.

إنّ التحديثات الأخيرة في إكس لم تفضح حسابات بعينها فحسب، بل عرّت فلسفة كاملة للإعلام الدعائي الذي يتغذّى على التمويه والانتحال.

وعليه، وفق ما هو موضح أعلاه، يغدو السؤال الفلسفي أكبر من مجرد حدث: كيف يمكن لجماعة أن تبني حضوراً رقمياً لا يتكئ إلا على الفراغ؟ وكيف يمكن للحقيقة، حين تتجسّد في معلومة صغيرة كالموقع الجغرافي، أن تسقط إمبراطوريات من الوهم؟

إنها في تصوري لحظة تؤكد أن التقنية، مهما بدا حيادها، قادرة على إعادة تشكيل ميزان الأخلاق والوعي حين ترفع الستار عن ما كان يُدار في الظل.

وهكذا، يتبدّى أن ما انكشف لم يكن شبكة حسابات فحسب، بل منظومة وعي مُضلَّل طالما استثمرت في الفراغ لصناعة حضور زائف وسلطة متخيّلة. كأن التقنية نفسها انتفضت على من أساءوا استخدامها، لتثبت أن معلومة هامشية قد تطيح بأبراج من الادعاء، وأن الحرب على الهوية والسمعة لا يمكن أن تربح معركة الحقيقة مهما استغلّت الظلام.

إنها - ببساطة شديدة - لحظة تعيد ترتيب ميزان الأخلاق في فضائنا الرقمي، وتفتح الباب لسؤال أبقى: ماذا يتبقى للجماعات القائمة على الوهم حين يُضاء المسرح وتنكشف خيوط الدمى؟