"هيئة الإفتاء الجنوبية": شرعنة الانفصال وتحدي النفوذ السعودي في جنوب اليمن

2025-12-14 02:49 الهدهد/خاص:
صورة مجمعة للعلم السعودي وعيدروس الزبيدي وقائد قوات درع الوطن ومركز سلفي
صورة مجمعة للعلم السعودي وعيدروس الزبيدي وقائد قوات درع الوطن ومركز سلفي

أصدر رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس قاسم الزُبيدي، السبت، قرارًا قضى بتشكيل "اللجنة التحضيرية لهيئة الإفتاء الجنوبية"، في خطوة حملت أبعادًا سياسية ودينية تتجاوز إطارها التنظيمي المعلن. 

 

ويأتي هذا القرار بعد زيارة مشتركة للوفد السعودي والإماراتي إلى عدن يوم الجمعة الماضية، والتي هدفت إلى محاولة إقناع الانتقالي بسحب قواته من محافظتي حضرموت والمهرة، المحافظتين اللتين تعتبرهما الرياض جزءًا من أمنها القومي. وقد فُسِّر القرار على أنه رسالة واضحة من الانتقالي، مفادها أنه ماضٍ في مشروعه الانفصالي دون اكتراث بالضغوط الخارجية، وأنه لن يتراجع عن خطواته في السيطرة على الأرض.

 

ونصّ القرار على تشكيل اللجنة التحضيرية العليا برئاسة نائب وزير الأوقاف والإرشاد، وعضوية كل من نائب وزير العدل ونائب وزير الشؤون القانونية. كما تضم اللجنة التحضيرية التنفيذية عددًا من الأكاديميين والمسؤولين العاملين في قطاعات القضاء والإرشاد والمناهج، من بينهم عميد البحث العلمي بالجامعة الإسلامية العالمية بالفيوش، ومستشار وزارة التربية والتعليم لشؤون المناهج، ومسؤولون في المحكمة العليا، وهيئة الفكر والإرشاد التابعة للمجلس الانتقالي، ووزارة الأوقاف، وقطاع الموارد البشرية. هذا التشكيل يضمن أن تكون الهيئة الجديدة تحت إشراف مباشر للمجلس الانتقالي، ويضفي عليها شرعية فنية وقانونية تجعلها أكثر قبولًا على المستوى المحلي والدولي.

 

الانتقال من السيطرة العسكرية إلى الهيمنة المؤسسية

 

ويأتي هذا القرار بعد سيطرة الانتقالي المدعوم من الإمارات على المحافظات الجنوبية والشرقية مطلع الشهر الجاري، حيث يمثل التحرك المؤسسي الأول بعد إحكام السيطرة على مفاصل النفوذ المحلي، بما يعكس انتقال المجلس من مرحلة السيطرة العسكرية إلى مرحلة بناء مؤسسات بديلة للدولة، قادرة على تثبيت سلطته وإدارة الشأن العام بشكل مستقل.

 

وترى مصادر سياسية أن تشكيل هيئة الإفتاء الجنوبية خطوة استراتيجية تهدف إلى توسيع نفوذ المجلس الانتقالي، والسيطرة على المشهد الديني إلى جانب المشهدين السياسي والإداري، من خلال عزل أي كيانات أو جماعات دينية لا تنضوي تحت مظلته، وفرض مرجعية واحدة خاضعة لسلطته. وتعيد هذه الخطوة إلى الأذهان تجربة الحوثيين في أبريل 2017، عندما أعلنوا تشكيل هيئة جديدة للإفتاء وعينوا رئيسًا منها لتكريس رؤيتهم الدينية وفرضها على المجتمع.

 

وبحسب هذه القراءة، يمنح تشكيل هيئة الإفتاء الانتقالي غطاءً دينيًا وسياسيًا يتيح له تحديد من يمثل المرجعية الشرعية في الجنوب، وتأطير الدين لخدمة مشروعه السياسي، وتأمين قاعدة اجتماعية وفكرية تواكب مساعيه الانفصالية وتمنحها شرعية رمزية. ومن المتوقع أن تمهّد هذه الخطوة لمسارات لاحقة تشمل إعادة هيكلة المؤسسات الدينية والتعليمية والقضائية بما يخدم مشروع الانفصال، وهو ما توحي به المادتان الثانية والثالثة من القرار، رغم عدم نشر تفاصيلهما كاملة.

 

يحمل قرار تشكيل الهيئة رسائل متعددة الاتجاهات: على المستوى الإقليمي والدولي، يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي إلى إظهار نفسه كسلطة قادرة على إدارة مؤسسات دينية وقانونية مستقلة، ضمن تصور متكامل لإدارة الجنوب بوصفه كيانًا قائمًا بذاته، يمتلك أدوات الحكم والسيطرة المؤسسية. وعلى المستوى الداخلي، يوجّه القرار ضربة مباشرة للقوى المحلية، ولا سيما السلفيين الموالين للحكومة الشرعية، إذ يسحب منهم الأرضية الفكرية والسياسية التي اعتمدوا عليها لتبرير حضورهم وتحالفاتهم، ويضعهم في موقع ضعيف أمام المجتمع المحلي، مع تراجع قدرتهم على التأثير أو فرض خطابهم.

 

ويمثل القرار إشارة واضحة للداخل الجنوبي الأوسع إلى أن الانتقالي يمضي في مشروع طويل الأمد لتثبيت سلطته، عبر إنشاء مؤسسات بديلة وموحّدة تخضع بالكامل لنفوذه، بما يعكس انتقاله من مرحلة السيطرة العسكرية إلى مرحلة إحكام السيطرة المؤسسية الشاملة. وفي هذا السياق، لا يمكن النظر إلى قرار الزُبيدي باعتباره إجراءً إداريًا معزولًا، بل بوصفه تحركًا استراتيجيًا محوريًا لتعزيز مشروع الانفصال وتأطير المرجعية الدينية والسياسية بما يخدم أهدافه، ويمنحه أدوات إضافية للسيطرة على الأرض.

 

ويُمثل القرار اللبنة المؤسسية الأولى بعد السيطرة على المحافظات الجنوبية والشرقية، تمهيدًا لإجراءات مماثلة في قطاعات التعليم والقضاء والإعلام، بهدف إحكام هيمنة المجلس الانتقالي على مختلف مفاصل الحياة العامة في الجنوب. وإذا نجح الانتقالي في بناء منظومة مؤسسات دولة متكاملة تشمل الجوانب السياسية والعسكرية والدينية، فإن ذلك سيؤدي تدريجيًا إلى إفراغ سلطة الحكومة الشرعية من مضمونها في تلك المناطق، ليصبح وجود السلفيين الموالين للشرعية حضورًا رمزيًا محدود التأثير، مع فقدان التمويل والغطاء السياسي والديني الذي كانوا يحصلون عليه من الرياض باسم دعم الشرعية، ما يضعهم في موقف بالغ الحرج أمام المجتمع المحلي.

 

ويعكس هذا التطور بوضوح الدور الحاسم للمؤسسات الدينية والسياسية في تثبيت السيطرة على الأرض، وكيف يمكن لبناء مؤسسات جديدة أن يعيد رسم موازين القوى التقليدية ويفرض واقعًا سياسيًا واجتماعيًا جديدًا في جنوب اليمن.

 

القراءة السياسية والإقليمية للقرار وتأثيره على الانفصال

 

قال الصحفي والباحث السياسي عدنان هاشم إن قرار تشكيل هيئة إفتاء جنوبية يمكن قراءته بوصفه «بالون اختبار» يهدف إلى قياس طبيعة تعامل المجتمع الدولي والمجتمعات المحلية مع طموحات رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزُبيدي، في ما يتعلق بإعلان دولة مستقلة في المحافظات الجنوبية.

 

وأوضح هاشم في تصريح لمنصة "الهدهد" أن هذه الخطوة تأتي بعد سيطرة المجلس الانتقالي على المحافظات الثماني التي كانت تشكّل الجمهورية السابقة قبل عام 1990م، وتشكل في الوقت ذاته تأكيدًا على أن المجلس ماضٍ في مشروع الانفصال دون نية للتراجع، خصوصًا في محافظتي المهرة وحضرموت، معتبرًا أن أي انكسار في هاتين المحافظتين سيُعدّ بمثابة وأد لطموحات الانتقالي وحليفه الرئيسي دولة الإمارات في اليمن.

 

وأشار إلى أن هذه التحركات تتزامن مع مرحلة مفصلية تمر بها البلاد، تتشكل فيها السياسات الإقليمية والدولية المتعلقة بمستقبل الحرب والسلم في اليمن، ما يمنح القرار أبعادًا تتجاوز كونه إجراءً إداريًا أو دينيًا، ليصبح رسالة سياسية واضحة الاتجاه.

 

من جانبه، قال الكاتب والباحث السياسي ياسين التميمي إن الاتجاه نحو تشكيل لجنة تحضيرية لما سُمّيت بـهيئة الإفتاء الجنوبية يعكس إصرار المجلس الانتقالي الجنوبي على المضي في مشروع تقسيم الدولة، مؤكدًا أن هذه الخطوة تتطلب، في جوهرها، التحرر من سلطة الفتوى الجامعة والإجماع الديني المرتبط بالثوابت الدينية والوطنية.

 

وأوضح التميمي في تصريح لمنصة "الهدهد" أن الهدف من هذا التوجه يتمثل في تأسيس مرجعية دينية وعلمائية جديدة تُستخدم لتوفير الغطاء الشرعي لمشروع الانفصال، وتمهيد الطريق لخطوات لاحقة تحتاج إلى إضفاء مشروعية دينية، لا سيما تلك التي تمس قضايا حساسة تتعلق بالدين والسيادة.

 

بدوره، قال الكاتب والباحث السياسي نبيل البكيري إن قرار المجلس الانتقالي الجنوبي بشأن تشكيل هيئة إفتاء جنوبية يأتي في سياق التطورات الأخيرة التي شهدتها محافظتا حضرموت والمهرة، مشيرًا إلى أن الانتقالي سارع إلى طرح فكرة إنشاء هيئة دينية تابعة له، بهدف توفير غطاء شرعي لتحركاته على الأرض.

 

وأوضح البكيري في تصريح لمنصة "الهدهد" أن المجلس الانتقالي يسعى من خلال هذه الخطوة إلى تبرير الانتهاكات التي ارتكبتها مليشياته، لا سيما الجرائم التي شهدها وادي وصحراء حضرموت مؤخرًا، معتبرًا أن اللجوء إلى الفتوى يمثل محاولة لتخفيف الضغوط المجتمعية المتزايدة، وتحسين صورته المتضررة نتيجة تلك الانتهاكات بحق المدنيين.

 

وأضاف أن الانتقالي، من منظور سياسي، يتعامل مع الواقع باعتباره قد حقق انتصارًا ميدانيًا، ولم يعد بحاجة ـ وفق تقديره ـ إلا إلى مرجعية دينية تمنح هذا الواقع غطاءً شرعيًا وتُضفي عليه مشروعية سياسية وأخلاقية.

 

تحدي النفوذ السعودي والتحكم بالمرجعية الدينية

 

لم تعد السلفية في جنوب اليمن مجرد تيار دعوي أو تعليمي كما كانت في بداياتها، بل تحولت تدريجيًا إلى فاعل سياسي وعسكري شديد الارتباط بمراكز النفوذ الإقليمي، وفي مقدمتها السعودية، إذ وجدت الرياض منذ تدخلها العسكري في التيار السلفي أداة مناسبة للعمل بوصفه قوة ناعمة قادرة على التأثير الديني والاجتماعي، وقوة صلبة جاهزة للانخراط في القتال، بما يحقق لها توازنًا مع قوى منافسة في الجنوب، كالإمارات.

 

في هذا السياق، يمكن قراءة خطوة المجلس الانتقالي بوصفها محاولة استباقية لحرمان الرياض من أدواتها الناعمة والصلبة في الجنوب، والتي طالما استخدمتها لموازنة النفوذ ومواجهة خصومها، ومن بينهم المجلس الانتقالي نفسه. تتمثل القوة الخشنة التي تمتلكها السعودية في تشكيلات عسكرية يغلب عليها الطابع السلفي، وفي مقدمتها قوات "درع الوطن"، التي ينتمي معظم أفرادها إلى التيار السلفي، وتحظى بدعم عسكري ومالي سعودي مباشر، ما يجعلها إحدى أهم أدوات النفوذ السعودي على الأرض.

 

إلى جانب ذلك، تمتلك الرياض شبكة واسعة من أدوات القوة الناعمة، تتجسد في المراكز الدعوية، ودور الحديث، وحلقات تحفيظ القرآن، والمراكز الدينية، فضلًا عن المشايخ والخطباء الذين يحظون بتأثير اجتماعي واسع، ويُعدّون جزءًا من الحاضنة السلفية المحسوبة على السعودية. هذه المنظومة شكّلت لعقود رافعة دينية واجتماعية للنفوذ السعودي في الجنوب، وأداة ضغط غير مباشرة يمكن تفعيلها عند الحاجة.

 

غير أن تشكيل هيئة الإفتاء الجنوبية يمنح المجلس الانتقالي فرصة مباشرة لتهديد هذا النفوذ، عبر نقل المرجعية الدينية من أيدي تلك الشبكات إلى مؤسسة رسمية خاضعة لسلطته، وبهذا، لا يكتفي الانتقالي بإعادة رسم المشهد الديني، بل يعمل على تحييد أهم أدوات التأثير السعودية، سواء العسكرية أو الدعوية، ووضعها تحت الأمر الواقع.

 

وتندرج هذه الخطوة ضمن مسعى أوسع للمجلس الانتقالي يهدف إلى تجفيف أي أدوات ضغط محلية قد تلجأ إليها الرياض مستقبلًا للضغط عليه أو كبح مشروعه السياسي، فمن خلال إحكام السيطرة الدينية، وإضعاف السلفيين المحسوبين على السعودية، يصبح الانتقالي أكثر قدرة على المناورة سياسيًا، وأقل عرضة للابتزاز الإقليمي، في مرحلة يرى فيها أن الصراع لم يعد عسكريًا فقط، بل صراعًا على الشرعية والمرجعية والقدرة على إدارة المجتمع.