من حضرموت إلى المهرة: كيف يصبّ تمدّد الانتقالي في مصلحة الحوثي-إيران ويعطّل مسار استعادة الدولة؟
مع تصاعد تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي في المحافظات الشرقية واجتياحه المسلح لحضرموت والمهرة، يتجاوز المشهد مسألة النفوذ أو التمثيل السياسي، ليتحول إلى عامل مؤثر في إعادة تشكيل الجغرافيا ومسار الصراع اليمني ككل والتأثير على فرص استعادة الدولة اليمنية، وهو بالمحصلة - وفق مراقبون يصب في مصلحة مليشيات الحوثي والمشروع الإيراني الأوسع في اليمن.
أحد أكثر الجوانب لفتاً للانتباه في هذه التطورات يتمثل في غياب موقف تصعيدي واضح من قيادة ميليشيات الحوثي. فعلى عكس ما اعتادت عليه الجماعة من توظيف أي اضطراب سياسي أو أمني في خطابها السياسي والإعلامي، بدا المشهد هذه المرة مختلفاً إذ يبدي زعيمها موقف المترقب بصمت.
هذا الصمت لا يُقرأ، وفق محللين، بوصفه حياداً، بل كجزء من حسابات سياسية دقيقة، حيث لا يمثّل تصعيد جماعة الانتقالي تهديداً مباشرا لسيطرة مليشيات الحوثي شمالًا، بل يساهم في تشتيت المعسكر المناهض لهم، وإضعاف أي مسار وطني جامع.
الحوثي يأكل الثوم بفم الانتقالي
في هذا السياق، يوضح د. علي الذهب، الباحث والمحلل في الشؤون العسكرية أن مليشيات الحوثي لم تُبدِ أي موقف رسمي تجاه ما جرى في حضرموت والمهرة من سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي، كما أنها لم تسعَ إلى استثمار هذه التطورات ميدانياً في إطار الصراع الداخلي، باستثناء بعض الاستجابات التكتيكية الدفاعية على خطوط المواجهة في عدد من الجبهات.
ويوضح في حديث خاص لمنصة "الهدهد" أن هذه الاستجابات تمثلت في استحداث تحصينات دفاعية في عقبة ثرة، الواقعة في المنطقة الفاصلة بين محافظتي أبين والبيضاء، إلى جانب وجود تحشيدات تعزز الموقف الدفاعي، فضلاً عن تنفيذ بعض العمليات الإيقاضية المحدودة في تعز ومناطق من الضالع، دون أن ترقى إلى مستوى هجوم واسع أو استثمار عسكري مباشر.
أما على المستوى الإعلامي، فيشير إلى أن الناشطين الموالين لجماعة الحوثيين أبدوا حالة واضحة من التشفي، حيث جرى تداول توصيف مفاده أن "فريق الإمارات يضرب فريق السعودية"، وهو خطاب يعكس، برأيه، ارتياحاً حوثياً واضحا لما قدّمه المجلس الانتقالي من خدمة غير مباشرة لجماعة الحوثي.
ويضيف أن هذه الخدمة تتمثل في إضعاف القوات الحكومية وتشتيتها، وهي القوات التي تتبنى خطاب الدولة اليمنية الموحدة، ومشروع الأقاليم التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وهي أفكار تعارضها جماعة الحوثيون والمجلس الانتقالي على السواء.
ويرى أن ما حدث أسدى للحوثيين "خدمة جليلة"، تمثلت في إضعاف هذه القدرات العسكرية الحكومية، وإضعاف مواقف الأطراف السياسية التي تستند إليها، فضلاً عن إضافة أعباء عسكرية وأمنية على مناطق جغرافية محددة
هي ما تبقى من تواجد لقوات الحكومة، وفي مقدمتها مأرب وتعز وأجزاء من الضالع، في ظل احتمالات سحب وحدات عسكرية حكومية أو إعادة نشر تشكيلات، ما قد يفتح مداخل لسيناريوهات عنف جديدة تشبه ما حدث في حضرموت.
روابط قديمة
وفي إجابته عن أسباب الصمت الحوثي، يشير د. علي الذهب إلى وجود قواسم مشتركة تفسر هذا الموقف، في مقدمتها جذور سياسية لعلاقات سابقة بين الطرفين، تجسدت في الوقوف على منبع تمويل وتدريب واحد، ممثلاً في إيران وحزب الله في الضاحية الجنوبية بلبنان، إضافة إلى لقاءات معروفة وزيارات متبادلة بين الحوثيين والحراك الجنوبي، الذي ينخرط جزء كبير منه اليوم في المجلس الانتقالي، حيث جرت زيارات من الضالع إلى صعدة، ومن صعدة إلى الضالع، ما قبل إسقاط صنعاء أواخر 2014.
ويؤكد الذهب أنه يتحدث عن تخادم في مشروع الكيانين، حيث يبحث المجلس الانتقالي عن كيان مستقل في الجنوب، بينما يستفيد الحوثيون من هذا التوجه في بناء كيان مستقل في مناطق نفوذهم، وهو ما قد يكون توجهاً إقليمياً في هذه المرحلة.
وبالعودة إلى ما أثاره الباحث والمحلل العسكري د. علي الذهب بشأن الجذور السياسية والعلاقات السابقة التي جمعت بين المشروع الإيراني وبعض مكونات مشاريع التقسيم في اليمن، تبرز معطيات تشير إلى أن عدداً من القيادات التي يتشكل منها المجلس الانتقالي الجنوبي سبق أن ارتبطت بعلاقات سياسية وإعلامية مع إيران وحزب الله اللبناني، أو تبنّت في مراحل سابقة خطاباً متقاطعاً مع مشروع جماعة الحوثي وأدبياتها.
وفي هذا السياق، يُستشهد على سبيل المثال بـ يحيى غالب الشعيبي، عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي كان يُعد حتى عام 2018 من أبرز المؤيدين لجماعة الحوثي ومشروعها، وظهر في أكثر من مناسبة عبر قنوات إعلامية تابعة لحزب الله اللبناني من بيروت، مروّجاً للجماعة وزعيمها، ومتبنّياً خطابها الطائفي والسياسي آنذاك.
كما أن عدداً من قيادات الحراك الجنوبي التي أسهمت لاحقاً في تأسيس المجلس الانتقالي، وبرز حضورها السياسي والإعلامي في السنوات الأخيرة، انطلقت في خطابها الانفصالي من الضاحية الجنوبية لبيروت، في سياق تقاطع واضح مع السرديات الإقليمية الداعمة لمشاريع التفكيك وإعادة رسم الجغرافيا السياسية في المنطقة.
وتتلاقى هذه المعطيات مع تصريحات موثقة لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، الذي قال في مقابلة أجراها في يونيو/حزيران 2023 مع معهد تشاتام هاوس الملكي البريطاني، إن جماعة الحوثي «ستبقى أمراً واقعاً»، مضيفاً: «سنتعايش مع الحوثيين، وسيكون لهم دولتهم في الشمال، وميناؤهم ومطارهم، وسيتحركون أينما يريدون، وهذه مسألة واقعية يجب التعامل معها». كما وصف الحوثيين بأنهم «يمنيون وعرب ولم يأتوا من المريخ». وعند سؤاله عن سيطرة الحوثيين على الشمال، أجاب الزبيدي بأن ذلك «أمر واقع».
تهيئة لصراع طائفي أعمق
من زاوية أكاديمية واجتماعية، يقدّم الباحث عادل دشيلة قراءة أعمق لطبيعة التحول الجاري، معتبرًا أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الصراع السياسي ذاته، بل في الانزلاق نحو عسكرة المجتمع على أسس أيديولوجية ومناطقية متقابلة.
ويشير دشيلة في حديث خاص لمنصة "الهدهد" إلى أن جماعة الحوثي تواصل منذ سنوات بناء نموذج عسكري–أيديولوجي طائفي مغلق في المناطق الشمالية، قائم على
التعبئة العقائدية وتجنيد الأطفال وأبناء القبائل تحت راية ما تسميه “السيد العَلم” و“قائد الثورة”، بهدف إقامة دولة مذهبية تخضع لولاية عبد الملك الحوثي، وهو ما يمثل، بحسب وصفه، جوهر التهديد طويل المدى.
في المقابل، يلفت الباحث إلى أن السنوات الأخيرة شهدت اتجاهاً مقلقاً نحو عسكرة موازية في المناطق الجنوبية والشرقية، ولكن بعقائد مذهبية مختلفة، من خلال تشكيلات عسكرية ذات طابع سلفي أو مناطقي، مثل قوات العمالقة، ومؤخراً "درع الوطن". ويؤكد أن اللافت في هذا المسار هو تجنيد بعض الشباب من مناطق جنوبية وايضاً من مناطق شمالية محددة، لا سيما من البيضاء وأجزاء من غرب ووسط اليمن، وفق معايير مذهبية معينة، يتم الاختيار بناء على الخلفية الشافعية.
ويحذر دشيلة من أن اليمن بات اليوم أمام معادلة خطيرة، تتمثل بجماعة عقائدية زيدية مسلحة في الشمال، تقابلها جماعات سلفية أو مناطقية مسلحة في الجنوب والشرق، وجميعها مدججة بالسلاح، ما يفتح الباب أمام انزلاق محتمل نحو فوضى واقتتال مذهبي أيديولوجي دموي يتجاوز أي مرحلة سابقة.
ورغم ضعف الدولة، يعتقد دشيلة أن أحد مكاسبها المتبقية يتمثل في إبقاء الصراع مع مليشيات الحوثي ضمن إطاره السياسي، دون الانزلاق الكامل إلى حرب أيديولوجية شاملة، معتبراً أن هذا المسار هو ما ينبغي الحفاظ عليه.
إعادة رسم التشطير.. التخادم بالنتائج
رغم التباين الأيديولوجي والسياسي بين المجلس الانتقالي الجنوبي وجماعة الحوثي، إلا أن تقاطع النتائج على الأرض يفرض نفسه بقوة، فالباحث والمحلل العسكري علي الذهب يرى أن ما يقوم به المجلس الانتقالي من إعادة رسم خريطة التقسيم، وتحديد معالم التشطير ما قبل
عام 1990 من خلال السيطرة على حضرموت والمهرة، يُعدّ، اتجاها عملياً لفكرة الانفصال، وتمكيناً لمليشيات الحوثيين في المناطق الشمالية.
ويشير إلى أن الحوثيين يترقبون هذه اللحظة، لأن إعلان الانفصال أو السير في اتجاهه سيشكّل، من وجهة نظرهم، خطوة مشجعة لتبني خطاب محاربة الانفصال، ليس من أجل محاربته بل بما يتيح لهم توسيع نفوذهم فيما تبقى من جغرافيا الحكومة الشرعية، ثم تثبيت مشروعهم في الشمال، وتوضيح معالم حدود التشطير ما قبل 1990، في إطار تقاسم السيطرة مع المجلس الانتقالي، وليس في إطار إعادة اجتياح المناطق الجنوبية.
وفي هذا السياق، يلفت الذهب إلى أن الكيانات السياسية والعسكرية التابعة للشرعية لم تعد تمتلك ذات القوة على الأرض، ما يجعلها عملياً في مواجهة خصمين لمشروع الدولة الوطنية، الحوثيين من جهة، والمجلس الانتقالي من جهة أخرى.
ويرجّح الذهب أن المرحلة المقبلة قد تشهد استثماراً مختلفاً لما حدث في حضرموت والمهرة، يتمثل في دفع القوات الحكومية المتبقية في الضالع إلى وضع دفاعي، إلى أن تترتب أوضاع المجلس الانتقالي ويُحكم سيطرته على الجنوب. وبعدها، قد تجد هذه القوات نفسها في موقف بالغ التعقيد، ما يفرض عليها التفكير الجدي في هذا السيناريو منذ الآن.
كما يشير إلى عامل آخر يتعلق بتنسيق إقليمي في اللحظة الراهنة، في ظل الدخول في مسار عملية سياسية محتملة، معتبراً أن ما حدث في حضرموت والمهرة قد يكون جزءاً من ترتيبات مرتبطة بهذه العملية، وهو ما يفسر إحجام الحوثيين عن اتخاذ أي موقف سياسي أو عسكري قد يضر بحساباتهم.
إشارة مهمة أخرى، ينّبه إليها الباحث الذهب، حيث يرى أن المجلس الانتقالي دفع، في إطار تحركاته الأخيرة، نحو عشرة آلاف مقاتل كدفعة أولى، من ثمانية ألوية، ليصل العدد إلى أكثر من 15 ألف مقاتل باتجاه حضرموت والمهرة، ما أحدث فجوات واضحة في لحج والضالع وأبين وشبوة. ورغم قدرة مليشيات الحوثي على استغلال هذا الفراغ لتحقيق مكاسب ميدانية، إلا أنهم أحجموا عن ذلك، نتيجة تفاهمات وحسابات أوسع، قد تتيح لهم مكاسب أكبر، سواء ضمن العملية السياسية التي يجري ترتيبها برعاية إقليمية ودولية، أو في إطار حسابات مستقبلية تتعلق بتقاسم النفوذ.
سردية خاطئة
في قراءته، يرى الباحث عادل دشيلة أن السيطرة العسكرية على الأرض تهدف، في جوهرها، إلى فرض واقع تفاوضي مستقبلي، بحيث يتم التعاطي مع أي عملية سياسية قادمة على أساس السيطرة الميدانية، وصولاً إلى شرعنة مشروع الانفصال وإقامة الكيان الشطري الذي يسعى المجلس الانتقالي لتكريسه.
غير أن دشيلة ينتقد ما يصفه بـ السردية المبسطة والخاطئة للصراع، القائمة على ثنائية “شمال وجنوب”، مؤكداً أن اليمن يعاني من مظالم متعددة في الغرب والشرق والجنوب والشمال، وأن اختزال الأزمة في انقسام ثنائي يتجاهل تعقيداتها التاريخية والاجتماعية.
ويخلص الباحث إلى أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الخلافات السياسية القابلة للحل، بل في أدلجة المجتمع وتسليحه على أسس مذهبية ومناطقية، وهو مسار من
شأنه تفكيك النسيج الاجتماعي، وإضعاف أي أفق مستقبلي لعملية سياسية جامعة، وخلق فرز مجتمعي خطير ستكون تداعياته طويلة الأمد.
في المحصلة، تبدو تداعيات تصعيد المجلس الانتقالي الجنوبي في المحافظات الشرقية أكبر مما يعتقد أنها مكاسب محققة، تداعيات تفضي الى دوامات عنف جديدة وحالة من عدم الاستقرار على كل المستويات، وطبقا لباحثين فالثمن الاستراتيجي يبدو أعلى، فكلما تعمّقت الصراعات الداخلية داخل المعسكر المناهض لمشروع الحوثيين، تراجعت فرص بناء جبهة وطنية قادرة على إنهاء الانقلاب واستعادة مشروع الدولة الوطنية.
هي ما تبقى من تواجد لقوات الحكومة، وفي مقدمتها مأرب وتعز وأجزاء من الضالع، في ظل احتمالات سحب وحدات عسكرية حكومية أو إعادة نشر تشكيلات، ما قد يفتح مداخل لسيناريوهات عنف جديدة تشبه ما حدث في حضرموت.
شأنه تفكيك النسيج الاجتماعي، وإضعاف أي أفق مستقبلي لعملية سياسية جامعة، وخلق فرز مجتمعي خطير ستكون تداعياته طويلة الأمد.