حين يبيع الفنان ذاكرته ليحمي كرامته: عدنان جمن وقصة لوحات تُنقذ بيتًا من الضياع

2025-12-22 18:23 الهدهد/خاص:
عدنان جمن  فنان تشكيلي
عدنان جمن فنان تشكيلي

لم تكن بداية الحكاية مقالًا ولا بيانًا، بل منشورًا شخصيًا كتبه الفنان التشكيلي ورسّام الكاريكاتير عدنان أحمد جمن على صفحته في فيسبوك، بلغة هادئة تخلو من الشكوى المباشرة، وتحمل في طياتها ثقل سنوات طويلة من الاستقرار والعمل والذاكرة. كتب عدنان: «وصلني إشعار بإخلاء الشقة التي استأجرها من أسرة هائل سعيد بعد سكني فيها أنا وأسرتي منذ أكثر من ٢٣ سنة بسبب تراكم الإيجارات والتي خلفتها تداعيات حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل… وأنا بالرغم من كل شيء مؤمن بأن هذا حقهم دون أدنى شك».

 

بهذه الكلمات، لم يقدّم نفسه كضحية، ولم يفتح باب الاتهام، بل وضع الوقائع كما هي: حرب لم يكن طرفًا فيها، وأعباء تراكمت، وحق قانوني يعترف به دون مواربة. غير أن ما بين السطور كان أثقل من مجرد إشعار إخلاء، إذ كان يعني نهاية استقرار دام أكثر من عقدين، وقلق أسرة، ومهلة قصيرة لمواجهة واقع قاسٍ.

ولم يتوقف المنشور عند توصيف الحال، بل انتقل عدنان إلى ما يشبه الخلاصة الأخلاقية، حين كتب: «لكن الخلاصة لكي أستطيع سداد حق الناس فلدي مجموعة من أعز لوحاتي أعرضها للبيع بأسعار مناسبة قبل انتهاء مهلة الشهر والتي تتزامن مع اقتراب الشهر الفضيل».

هنا، لم يعد الحديث عن إيجار متأخر فقط، بل عن فنان يضع جزءًا من تاريخه الشخصي والفني في كفّ الميزان، ويختار بيع “أعز لوحاته” لا بوصفها فائضًا، بل بوصفها آخر ما يملكه ليستوفي حق الآخرين ويحافظ على كرامته. لم يكن في الكلمات استعطاف، ولا نداءً مفتوحًا، بل عرضًا صريحًا ينبع من إحساس بالمسؤولية.

واختتم منشوره بجملة بسيطة، لكنها شديدة الدلالة: «من يرغب بشرائها يتواصل معي على الخاص كي أعرض له تلك اللوحات».

كأن الفنان يقول بهدوء: هذا ما أستطيع فعله الآن، وهذا ما أملكه بعد سنوات طويلة من العمل الصامت.

لكن عدنان أحمد جمن ليس اسمًا عابرًا في المشهد الثقافي اليمني، ولا فنانًا طارئًا أخرجته الأزمة إلى الضوء. هو من مواليد 1960 في كريتر بمدينة عدن، إحدى البيئات التي شكّلت وعيه الفني والإنساني، وتخرّج في قسم الفنون الجميلة بمعهد المعلمين بعدن عام 1980، وحصل على وسام عيد العلم، ثم عمل معيدًا في المعهد لمدة عام قبل أن ينتقل عام 1982 للعمل رسامًا جرافيك وخطاطًا في صحيفة 14 أكتوبر.

ينتمي عدنان إلى الجيل المؤسس لفن الكاريكاتير في عدن، وقد نشر أول أعماله الكاريكاتيرية في صحيفة 14 أكتوبر مطلع سبعينيات القرن الماضي، وهو لا يزال طالبًا في المرحلة الإعدادية، حين كان الكاريكاتير موقفًا ثقافيًا واجتماعيًا قبل أن يكون مادة صحفية.

منذ منتصف الثمانينيات، بدأ عمله مع منظمة اليونيسف في عدن، حيث رسم المواد التوعوية، ثم انتقل إلى صنعاء عام 1990 ليعمل رسامًا ومصممًا جرافيك في مكتب اليونيسف حتى عام 1994 كموظف رسمي، ثم كمتعاقد لسنوات لاحقة. وخلال تلك المرحلة، لم يكن يرسم لنفسه فقط، بل للأطفال، والأمهات، والمرضى، والمجتمع الأوسع.

قدّم رسومات وقصصًا مصورة لمجلات الأطفال مثل: وضاح، الحارس الصغير، نشوان، الطلائع، المثقف الصغير، والطفولة، وأسهم في رسم وإخراج العديد من كتب الأطفال والفتيان قبل الوحدة وبعدها. وإلى جانب ذلك، اشتغل كفنان تشكيلي يرسم بمختلف الخامات، وقدم لوحات مستلهمة من البيئة اليمنية، وشارك في معارض محلية ودولية داخل اليمن وخارجه.

لم يكتفِ بالإنتاج الفني، بل أسهم في التدريب ونقل الخبرة، حيث قدّم دورات نوعية لطلبة الفنون التشكيلية في صنعاء وعدد من الجامعات الخاصة، كما نفّذ دورتين تدريبيتين في فن القصة المصورة (الكوميكس) لصالح مؤسسة جدارية للتنمية والإعلام. وعمل كذلك مع عدد من المنظمات الدولية، من بينها منظمة الصحة العالمية، برنامج الغذاء العالمي، منظمة ماري ستوبس، منظمة يمان، ومنظمة USDA الأميركية، إلى جانب مؤسسات مجتمع مدني متعددة.

تلقى عدنان دورات متخصصة في الطباعة والنشر والتصميم والجرافيكس في الأردن بدعم من اليونيسف، وشارك في معارض دولية للفن التشكيلي، حاملاً معه صورة اليمن وثقافته البصرية إلى فضاءات أوسع.

واليوم، بعد كل هذا المسار الطويل، يجد نفسه أمام مهلة شهر واحد فقط، يبيع خلالها لوحاته، لا لأنه تخلى عنها، بل لأنه اختار أن يدفع ثمن حرب لم يخترها، وأن يسدد “حق الناس” من ذاكرته الفنية.

قصة عدنان أحمد جمن ليست قصة إعلان بيع لوحات، بل قصة فنان حمل وطنه في خطوطه وألوانه، ثم اضطر في لحظة قاسية إلى تعليق تاريخه على جدار الحاجة. هي قصة بلد يترك مبدعيه يواجهون الأزمات فرادى، وذاكرة تُقايَض بالسكن، وفن يتحول إلى وسيلة نجاة.

هو لم يطلب شفقة، ولم يرفع صوته، بل كتب ما حدث، وقال ما سيفعله، وترك الباقي لضمير من يقرأ.